سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك، كقوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا} [النساء: 9] ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.
المسألة الثانية: قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} فيه قولان: الأول: أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي: إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه وعينيه، يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء: فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما».
والقول الثاني: ان ذلك توسع، والمراد: ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث انه يفضي اليه ويستلزمه، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر، كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] قال القاضي: وهذا أولى من الأول لأن قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} الاشارة فيه إلى كل واحد، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}.
وجوابه: أنه كقوله: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِم} [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفهم، وقال: {ولكن تعمى القلوب التى فِي الصدور} [الحج: 46] والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقال: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والطيران لا يكون إلا بالجناح، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة.
المسألة الرابعة: انه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الاتلافات، فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل، أو بطريق آخر، وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه:
أحدها: أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها. فخرج الكلام على عادتهم.
وثانيها: أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا، أنه يقال: إنه أكل ماله.
وثالثها: أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات.
المسألة الخامسة: قالت المعتزلة: الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل، سواء كان مسلما أو لم يكن؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة، والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى: {والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة: 254] ثم قالت المعتزلة: ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية، وإذا كان كذلك، فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة، فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله، فقال أبو علي الجبائي: قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة، هذا جملة ما ذكره القاضي، فيقال له: فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين:
أحدهما: أنك زدت فيه شرط عدم التوبة.
والثاني: أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو؟ أقصى ما في الباب أن يقال: ما وجدنا دليلا يدل على حصول العفو، لكنا نجيب عنه من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم عدم دلائل العفو، بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة.
والثاني: هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا يفيد القطع بعدم الوجود، بل يبقى الاحتمال، وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم، والله أعلم.
المسألة السادسة: أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار، ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب، بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله، أما هاهنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح، فكان الوعيد أشد، ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب، أما اليتيم فانه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد.
ثم قال تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم {وَسَيَصْلَوْنَ} بضم الياء، أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال: صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء، وهو صالي النار، وقوم صالون وصلاء قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 163] وقال: {أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 70] وقال: {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم: 29، ص: 56، المجادلة: 8] قال الفراء: الصلي: اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت، وإذا فتحت قصرت، ومن ضم الياء فهو من قولهم: أصلاه الله حر النار اصلاء. قال: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء: 30] وقال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] قال صاحب الكشاف: قرئ {سيصلون} بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها.
المسألة الثانية: السعير: هو النار المستعرة يقال: سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير، والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة، وإنما قال: {وَسَيَصْلَوْنَ} لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة: روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية، فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم} [البقرة: 220] ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم}، والله أعلم.


{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: أحدهما: النسب، والآخر العهد، أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الاناث.
وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة، وأما العهد فمن وجهين:
الأول: الحلف، كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فاذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت، والثاني: التبني، فان الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه، وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية، ومن العلماء من قال: بل قررهم الله على ذلك فقال: {وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 33] والمراد التوارث بالنسب. ثم قال: {والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] والمراد به التوارث بالعهد، والأولون قالوا المراد بقوله: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} ليس المراد منه النصيب من المال، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة، فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية.
وأما أسباب التوارث في الاسلام، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني، وزاد فيه أمرين آخرين: أحدهما: الهجرة، فكان المهاجر يرث من المهاجر. وان كان أجنبيا عنه، إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة، ولا يرثه غير المهاجر، وإن كان من أقاربه.
والثاني: المؤاخاة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم، وكان ذلك سببا للتوارث، ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله: {وَأُوْلُواْ الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله} [الأحزاب: 6] والذي تقرر عليه دين الاسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: النسب، والنكاح، والولاء.
المسألة الثانية: روى عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا، فأخذ الأخ المال كله، فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، وإن سعداً قتل وان عمهما أخذ مالهما، فقال عليه الصلاة والسلام: «ارجعي فلعل الله سيقضي فيه» ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك».
فهذا أول ميراث قسم في الاسلام المسألة الثالثة: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام، وما على الأولياء فيه، بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالارث، ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث.
الثاني: أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالاجمال في قوله: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} [النساء: 7] فذكر عقيب ذلك المجمل، هذا المفصل فقال: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم}.
المسألة الرابعة: قال القفال: قوله: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم} أي يقول الله لكم قولا يوصلكم الى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم، وأصل الايصاء هو الايصال يقال: وصى يصي اذا وصل، وأوصى يوصي اذا أوصل، فاذا قيل: أوصاني فمعناه أوصلني الى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج: معنى قوله هاهنا: {يُوصِيكُمُ} أي يفرض عليكم، لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وصاكم بِهِ} ولا شك في كون ذلك واجبا علينا.
فان قيل: انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال هاهنا: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين}.
قلنا: لما كانت الوصية قولا، لا جرم ذكر بعد قوله: {يُوصِيكُمُ الله} خبرا مستأنفا وقال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} ونظيره قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29] أي قال الله: لهم مغفرة لأن الوعد قول.
المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «فاطمة بضعة مني» فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم.
واعلم أن للأولاد حال انفراد، وحال اجتماع مع الوالدين: أما حال الانفراد فثلاثة، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والاناث معا، وإما أن يخلف الاناث فقط، أو الذكور فقط.
القسم الأول: ما اذا خلف الذكران والاناث معا، وقد بين الله الحكم فيه بقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين}.
واعلم أن هذا يفيد أحكاما: أحدهما: اذا خلف الميت ذكراً واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم.
وثانيها: إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الاناث كان لكل ذكر سهمان، ولك أنثى سهم.
وثالثها: إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم، وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يفيد هذه الأحكام الكثيرة.
القسم الثاني: ما إذا مات وخلف الاناث فقط: بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين، فلهن الثلثان، وإن كانت واحدة فلها النصف، إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح.
واختلفوا فيه، فعن ابن عباس أنه قال: الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا، وأما فرض البنتين فهو النصف، واحتج عليه بأنه تعالى قال: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وكلمة إن في اللغة للاشتراط، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعداً، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين.
والجواب من وجوه:
الأول: أن هذا الكلام لازم على ابن عباس، لأنه تعالى قال: {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة، وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله.
الثاني: أنا لا نسلم أن كلمة ان تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين، لأن الاجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف، وإما الثلثان، وبتقدير أن يكون كلمة إن للاشتراط وجب القول بفسادهما، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا، ولأنه تعالى قال: {وَإِن لَّمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وقال: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} [النساء: 101]، ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات.
الوجه الثالث: في الجواب: هو أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: فان كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان، فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس، وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان، قالوا: وإنما عرفنا ذلك بوجوه:
الأول: قال أبو مسلم الاصفهاني: عرفناه من قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فهاهنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} فاذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين، ونصيب الذكر هاهنا هو الثلثان، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين.
الثاني: قال أبو بكر الرازي: اذا مات وخلف ابنا وبنتا فهاهنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} فاذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث، فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى، لأن الذكر أقوى من الأنثى.
الثالث: أن قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص، واذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان، لأنه لا قائل بالفرق، والرابع: أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين، وذلك يدل على ما قلناه.
الخامس: أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن، ولم يذكر حكم الثنتين، وقال في شرح ميراث الأخوات: {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فهاهنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه، فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك، لأنهما أقرب الى الميت من الأختين، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك، لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى، فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب، فالوجوه الثلاثة الاول مستنبطة من الآية، والرابع مأخوذ من السنة، والخامس من القياس الجلي.
أما القسم الثالث: وهو اذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول: أما الابن الواحد فانه اذا انفرد أخذ كل المال، وبيانه من وجوه: الاول من دلالة قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} [النساء: 176] فان هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين.
ثم قال تعالى في البنات: {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} فلزم من مجموع هاتين الآيتين ان نصيب الابن المفرد جميع المال.
الثاني: أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر».
ولا نزاع ان الابن عصبة ذكر، ولما كان الابن آخذاً لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل.
الثالث: ان أقرب العصبات إلى الميت هو الابن، وليس له بالاجماع قدر معين من الميراث، فاذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له ان يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد، فوجب أن يأخذ الكل.
فان قيل: حظ الانثيين هو الثلثان فقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يقتضي أن يكون حظ الذكر مطلقا هو الثلث، وذلك ينفي أن يأخذ كل المال.
قلنا: المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد، ويدل عليه وجهان:
أحدهما: ان قوله: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم} يقتضي حصول الأولاد، وقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يقتضي حصول الذكر والانثى هناك.
والثاني: أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد، هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط، أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان، فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم.
بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه: أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز، فان زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك.
وأما ثانيا: فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها.
وأما ثالثا: فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر، فان لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل.
والجواب عنه من وجوه:
الأول: أن خروج المرأة أقل، لأن زوجها ينفق عليها، وخروج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته، ومن كان خروجه أكثر فهو إلى المال أحوج.
الثاني: أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية، مثل صلاحية القضاء والامامة، وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، ومن كان كذلك وجب أن يكون الانعام عليه أزيد.
الثالث: ان المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة، فاذا انضاف اليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر:
إن الفراغ والشباب والجده *** مفسدة للمرء أي مفسده
وقال تعالى: {إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّءاهُ استغنى} [العلق: 6، 7] وحال الرجل بخلاف ذلك.
والرابع: أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، نحو بناء الرباطات، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك.
الخامس: روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال: إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم، فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها، فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل.
السؤال الثاني: لم لم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر؟
والجواب من وجوه:
الأول: لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى، كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى.
الثاني: أن قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام، ولو قال: كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام، فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل، ولهذا قال: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فذكر الاحسان مرتين والاساءة مرة واحدة.
الثالث: أنهم كانوا يورثون الذكور دون الاناث وهو السبب لورود هذه الآية، فقيل: كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى، فلا ينبغى له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية، والله أعلم.
المسألة السادسة: لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة، ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26] وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام: {يا بَنِى إسراءيل} [البقرة: 40] الا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازاً أو حقيقة.
فان قلنا: إنه مجاز فنقول: ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا، فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم} ولد الصلب وولد الابن معا.
واعلم أن الطريق في دفع هذا الاشكال أن يقال: انا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس، وأما ان أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول: الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا، وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين، إما عند عدم ولد الصلب رأسا، وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث، فحينئذ يقتسمون الباقي، وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك، وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا، لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن، وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب، فالحاصل ان هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن، وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحداً، أما إذا قلنا: ان وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة، فان جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الاشكال، لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا، بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس. والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} [النساء: 23] وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن، فعلمنا أن لفظ الابن متواطئ بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الأجداد والجدات؟ ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة، فإن الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم.
المسألة السابعة: اعلم أن عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} زعموا أنه مخصوص في صور أربعة: أحدها: أن الحر والعبد لا يتوارثان.
وثانيها: أن القاتل على سبيل العمد لا يرث.
وثالثها: أنه لا يتوارث أهل ملتين، وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض، ويتفرع عليه فرعان:
الفرع الأول: اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم، أما المسلم فهل يرث من الكافر؟ ذهب الأكثرون إلى أنه أيضاً لا يرث، وقال بعضهم: إنه يرث قال الشعبي: قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به ويقول: هكذا قضى أمير المؤمنين.
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين».
وحجة القول الثاني: ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الاسلام يزيد ولا ينقص ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} يقتضي توريث الكافر من المسلم، والمسلم من الكافر، إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يتوارث أهل ملتين» لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية، والخاص مقدم على العام فكذا هاهنا قوله: الاسلام يزيد ولا ينقص أخص من قوله: لا يتوارث أهل ملتين فوجب تقديمه عليه، بل هذا التخصيص أولى، لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية، والخبر الأول ليس كذلك، وأقصى ما قيل في جوابه: أن قوله: الاسلام يزيد ولا ينقص ليس نصا في واقعة الميراث، فوجب حمله على سائر الأحوال.
الفرع الثاني: المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل، فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث، بل يكون لبيت المال، أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان: قال الشافعي: لا يورث بل يكون لبيت المال، وقال أبو حنيفة: يرثه ورثته من المسلمين، حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين» على عموم قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين، فوجب أن لا يحصل التوارث.
فان قيل: لا يجوز أن يقال: إن المرتد زال ملكه في آخر الاسلام وانتقل إلى الوارث، وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر.
قلنا: لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته، والأول باطل، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون: 6] وهو بالاجماع باطل.
والثاني: باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين، وهو خلاف الخبر. ولا يبقى هاهنا إلا أن يقال: إنه يرثه بعد موته مستنداً إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه، إلا أن القول بالاستناد باطل، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي، وذلك باطل في بداهة العقول، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد، وقد أبطلناه، والله أعلم.
الموضع الرابع: من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».
فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، ثم ان الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز هاهنا، وبيانه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على خلاف قوله تعالى: حكاية عن زكريا عليه السلام {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} [النمل: 16] قالوا: ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة. بل يكون كسباً جديداً مبتدأ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة.
وثانيها: أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا الى معرفة هذه المسألة البتة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة.
وثالثها: يحتمل أن قوله: ما تركناه صدقة صلة لقوله: لا نورث والتقدير: أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث.
فان قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك.
قلنا: بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
والجواب: أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الاجماع على صحة ما ذهب اليه أبو بكر فسقط هذا السؤال، والله أعلم.
المسألة الثامنة: من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} معناه للذكر منهم، فحذف الراجع اليه لأنه مفهوم، كقولك: السمن منوان بدرهم، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن، وقوله: {فَوْقَ اثنتين} يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان، وأن يكون صفة لقوله: {نِسَاء} أي نساء زائدات على اثنتين.
وهاهنا سؤالات.
السؤال الأول: قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف يحسن إرادته بقوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء} وهو لبيان حظ الاناث.
والجواب من وجهين:
الأول: أنا بينا أن قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} على معنى: فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد، فلهن ما للثنتين وهو الثلثان، ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت، فثبت أن هذا العطف متناسب.
الثاني: أنه قد تقدم ذكر الأنثيين، فكفى هذا القول في حسن هذا العطف.
السؤال الثاني: هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين ويكون نساء وواحدة تفسيراً لهما على ان كان تامة؟
الجواب: ذكر صاحب الكشاف: أنه ليس ببعيد.
السؤال الثالث: النساء: جمع، وأقل الجمع ثلاثة، فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين؟
الجواب: من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته، ومن يقول: هو ثلاثة قال هذا للتأكيد، كما في قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} [النحل: 51].
أما قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} فنقول: قرأ نافع (واحدة) بالرفع، والباقون بالنصب، أما الرفع فعلى كان التامة، والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء} والتقدير: فان كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا هاهنا، التقدير: وإن كانت المتروكة واحدة، وقرأ زيد بن علي: النصف، بضم النون.
قوله تعالى: {وَلأِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ}.
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الحسن ونعيم بن أبي ميسر {السدس} بالتخفيف وكذلك الربع و{الثمن}.
المسألة الثانية: اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى: أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية، واعلم أنه لا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر والانثى، فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد، أو أكثر من واحد، فهاهنا الابوان لكل واحد منهما السدس.
وثانيها: أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر، وهاهنا الحكم ما ذكرناه أيضا.
وثالثها: أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فهاهنا للبنت النصف، وللام السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية. والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب، وهاهنا سؤالات.
السؤال الأول: لا شك أن حق الوالدين على الإنسان أعظم من حق ولده عليه، وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال: {وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل؟
والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة، وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا، أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق.
السؤال الثاني: الضمير في قوله: {وَلأِبَوَيْهِ} إلى ماذا يعود؟
الجواب: أنه ضمير عن غير مذكور، والمراد: ولأبوي الميت.
السؤال الثالث: ما المراد بالأبوين؟
والجواب: هما الأب والأم، والأصل في الأم أن يقال لها أبة، فأبوان تثنية أب وأبة.
السؤال الرابع: كيف تركيب هذه الآية.
الجواب: قوله: {لِكُلّ واحد مّنْهُمَا} بدل من قوله: {لأبويه} بتكرير العامل، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه.
فان قيل: فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس.
قلنا: لأن في الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيداً وتشديدا، والسدس مبتدأ وخبره: لأبويه، والبدل متوسط بينهما للبيان.
قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمّهِ الثلث}.
وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين، وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد، ولا يكون هناك وارث سواهما، وهو المراد من قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فهاهنا للأم الثلث، وذلك فرض لها، والباقي للأب، وذلك لأن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما، واذا كان كذلك كان مجموع المال لهما، فاذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب، فهاهنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد، ويتفرع على ما ذكرنا فرعان: الأول: أن الآية السابقة دلت على أن فرض الاب هو السدس، وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه هاهنا يأخذ السدس بالفريضة، والنصف بالتعصيب.
الثاني: لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب اذا انفرد أن يأخذ كل المال، لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد، هذا كله اذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين، أما اذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة الى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي الى الأم، ويدفع الباقي الى الأب، وقال ابن عباس: يدفع الى الزوج نصيبه، والى الأم الثلث، ويدفع الباقي الى الأب، وقال: لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي، وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين، وخالفه في الزوج والأبوين، لأنه يفضي الى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وأما في الزوجة فانه لا يفضي الى ذلك، وحجة الجمهور وجوه:
الأول: أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين، ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى: {يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين} [النساء: 176] وأيضا الأم مع الأب كذلك، لأنا بينا أنه اذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث، وللأب الثلثان، اذا ثبت هذا فنقول: اذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا، للذكر مثل حظ الأنثيين.
الثاني: أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال، فاذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول.
الثالث: أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة، فأشبه الوصية في قسمة الباقي.
الرابع: أن المرأة اذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف، فلو دفعنا الثلث الى الأم والسدس الى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وهذا خلاف قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين}.
واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول: يرجع حاصلها الى تخصيص عموم القرآن بالقياس.
وأما الوجه الرابع: فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي {فَلأُِمّهِ} بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسوراً أو ياء.
أما الأول: فكقوله: {فِى بُطُونِ أمهاتكم} [الزمر: 6].
وأما الثاني: فكقوله: {فِى أُمّهَا رَسُولاً} [القصص: 59] وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً} وأما الباقون فإنهم قرؤا بضم الهمزة، أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج: انهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله: {فَلأِمّهِ} وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة، وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين، فلا جرم جعلت الضمة كسرة، وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل، ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللام في حكم المنفصل، والله أعلم.
قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِهِ السدس}.
اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الأخوة، والأخوات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس، واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون، واختلفوا في الأختين، فالأكثرون من الصحابة على القول باثبات الحجب كما في الثلاثة، وقال ابن عباس: لا يحجبان كما في حق الواحدة، حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة، ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه، فاذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب، فوجب أن لا يحصل الحجب.
روي أن ابن عباس قال لعثمان: بم صار الاخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس؟ وإنما قال الله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان في لسان قومك ليسا باخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار.
واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان، وعثمان ما أنكره، وهما كانا من صميم العرب، ومن علماء اللسان، فكان اتفاقهما حجة في ذلك.
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين: الأول: أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه، واحتجوا فيه بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ولا يكون للانسان الواحد أكثر من قلب واحد.
وثانيها: قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} والتقييد بقوله: فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين.
وثالثها: قوله: الاثنان فما فوقهما جماعة والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين، الا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين، وإنما الموجب لذلك هو القياس، وتقريره أن نقول: الأختان يوجبان الحجب، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا، إنما قلنا إن الأختين يحجبان، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة، فثبت أن الأختين يحجبان، واذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين، لأنه لا قائل بالفرق، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع، وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع، ويمكن أن يقال: لا يتمسك به على طريقة القياس، بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم، واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس، والأصح في أصول الفقه أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة، والله أعلم.
المسألة الثانية: الاخوة اذا حجبوا الأم من الثلث الى السدس فهم لا يرثون شيئا ألبتة، بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس، سدس بالفرض، والباقي بالتعصيب، وقال ابن عباس: الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه، وما بقي فللأب، وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب، فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا، وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين، وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين، كما كان قبل ذلك، والله أعلم.
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا}.
اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين، قال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق، فأما إذا لم يكن دين، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء، فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله.
المسألة الثانية: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة أو لا تفيد الترتيب ألبتة.
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين:
الأول: أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان اخراجها شاقا على الورثة، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها، ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة أو على الوصية والدين، تنبيها على أنهما في وجوب الاخراج على السوية.
الثاني: أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث، وليس كذلك الدين، فانه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا، فالوصية تشبه الإرث من وجه، والدين من وجه آخر، أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: ما معنى أو هاهنا وهلا قيل: من بعد وصية يوصى بها ودين، والجواب من وجهين:
الأول: أن أو معناها الاباحة كما لو قال قائل: جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس، فان جالست الحسن فأنت مصيب، أو ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعتهما فأنت مصيب، أما لو قال: جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر، فكذا هاهنا لو قال: من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران، ومعلوم أنه ليس كذلك، أما اذا ذكره بلفظ أو كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما.
الثاني: أن كلمة أو اذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايا أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فكانت أو هاهنا بمعنى الواو، فكذا قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا.
المسألة الرابعة: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {يُوصِى} بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى: {مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ}.
قوله تعالى: {وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه، فنقول: إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات، والانسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه، وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال: إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة، وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، فكأنه قيل: أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم، فقوله: {وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} اشارة إلى ترك ما يميل اليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة، وقوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} اشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها، وذكروا في المراد من قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} وجوها: الأول: المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة، قال ابن عباس: إن الله ليشفع بعضهم في بعض، فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله اليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه، فقال: {لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك.
الثاني: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث: المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد.
قوله تعالى: {فَرِيضَةً مّنَ الله} هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما، والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل اليها طباعكم، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن، ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها، وهذا نظير قوله للملائكة: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
فان قيل: لم قال: {كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} مع أنه الآن كذلك.
قلنا: قال الخليل: الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان، وقال سيبويه: القوم لما شاهدوا علماً وحكمة وفضلا وإحساناً تعجبوا، فقيل لهم: إن الله كان كذلك، ولم يزل موصوفا بهذه الصفات.


{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)}
اعلم أنه تعالى أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات، وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة، فان اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية، فحصل هاهنا أقسام ثلاثة، أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب، وذلك هو قرابة الولاد، ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم.
وثانيها: الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية، وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي، والذاتي أشرف من العرضي، وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها.
وثالثها: الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه:
أحدها: أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية، وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية.
وثانيها: أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة، والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة.
وثالثها: أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة. وكثرة المخالطة مظنة الالفة والشفقة، وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم، فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما جعل في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الانثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الانثيين، واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن، والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن، واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والانثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن، والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: يجوز للزوج غسل زوجته، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز.
حجة الشافعي أنها بعد الموت زوجته فيحل له غسلها، بيان أنها زوجته قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} سماها زوجة حال ما أثبت للزوج نصف مالها عند موتها، إذا ثبت للزوج نصف مالها عند موتها، فوجب أن تكون زوجة له بعد موتها، إذا ثبت هذا وجب أن يحل له غسلها لأنه قبل الزوجية ما كان يحل له غسلها، وعند حصول الزوجية حل له غسلها، والدوران دليل العلية ظاهرا.
وحجة أبي حنيفة أنها ليست زوجته ولا يحل له غسلها: بيان عدم الزوجية أنها لو كانت زوجته لحل له بعد الموت وطؤها لقوله: {إِلاَّ على أزواجهم} [المؤمنون: 6] وإذا ثبت هذا وجب أن لا يثبت حل الغسل، لأنه لو ثبت لثبت اما مع حل النظر وهو باطل لقوله عليه السلام: «غض بصرك إلا عن زوجتك» أو بدون حل النظر وهو باطل بالاجماع.
والجواب: لما تعارضت الآيتان في ثبوت الزوجية وعدمها وجب الترجيح فنقول: لو لم تكن زوجة لكان قوله: {نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} مجازا، ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل وطؤها لزم التخصيص، وقد ذكرنا في أصول الفقه أن التخصيص أولى، فكان الترجيح من جانبنا، وكيف وقد علمنا أن في صور كثيرة حصلت الزوجية ولم يحصل حل الوطء مثل زمان الحيض والنفاس ومثل نهار رمضان، وعند اشتغالها باداء الصلاة المفروضة والحج المفروض، وعند كونها في العدة عن الوطء بالشبهة، وأيضا فقد بينا في الخلافيات أن حل الوطء ثبت على خلاف الدليل لما فيه من المصالح الكثيرة، فبعد الموت لم يبق شيء من تلك المصالح، فعاد إلى أصل الحرمة، أما حل الغسل فان ثبوته بعد الموت منشأ للمصالح الكثيرة فوجب القول ببقائه والله أعلم.
المسألة الثالثة: في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب، ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن.
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة أوامرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثلث مِن بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية الله والله عليم حليم}.
اعلم أن هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة، واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد، وهذا هو المختار والقول الصحيح، وأما عمر رضي الله عنه فانه كان يقول: الكلالة من سوى الولد، وروي أنه لما طعن قال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد، وعن عمر فيه رواية أخرى: وهي التوقف، وكان يقول: ثلاثة، لأن يكون بينها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحب الي من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا. والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه:
الأول: التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه:
الأول: يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان، ثم كل عنه إذا تباعد. فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه.
الثاني: يقال: كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة، وذلك لانا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف، وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة.
الثالث: الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الاحاطة، ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس، ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه، ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب، إذا عرفت هذا فنقول: من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة، لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالاكليل المحيط برأسه: أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض: ويتولد البعض من البعض، كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد، ولهذا قال الشاعر:
نسب تتابع كابراً عن كابر *** كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة، وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات، فانما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب اليه، فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد.
الحجة الثانية: أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين، في هذه السورة: أحدهما: في هذه الآية، والثاني: في آخر السورة وهو قوله: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط، قال: لأن المذكور هاهنا في تفسير الكلالة: هو أنه ليس له ولد، إلا أنا نقول: هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد. وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة، ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين.
الحجة الثانية: انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة، وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد.
الحجة الرابعة: قول الفرزدق:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة *** عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة، ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم، وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم.
المسألة الثانية: الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث، فاذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين، واذا جعلناها وصفا للمورث، فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال: مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد، وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي رويناه عن الفرزدق، فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام، بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو هاهنا مورث لا وارث، اذا عرفت هذا فنقول: المراد من الكلالة في هذه الآية الميت، الذي لا يخلف الوالدين والولد، لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا.
المسألة الثالثة: يقال رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا جعلناها صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة، كما يقول: فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي، قال صاحب الكشاف: ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق.
المسألة الرابعة: قوله: {يُورَثُ} فيه احتمالان: الأول: أن يكون ذلك مأخوذاً من ورثه الرجل يرثه، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه، وفي انتصاب كلالة وجوه:
أحدها: النصب على الحال، والتقدير: يورث حال كونه كلالة، والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره: يورث متكلل النسب.
وثانيها: أن يكون قوله: {يُورَثُ} صفة لرجل، و{كلالة} خبر كان، والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة.
وثالثها: أن يكون مفعولا له، أي يورث لأجل كونه كلالة.
الاحتمال الثاني: في قوله: {يُورَثُ} أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارب، وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة.
المسألة الخامسة: قرأ الحسن، وأبو رجاء العطاردي: يورث ويورث بالتخفيف والتشديد على الفاعل.
أما قوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هاهنا سؤال: وهو أنه تعالى قال: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة أَو امرأة} ثم قال: {وَلَهُ أَخٌ} فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه؟
والجواب قال الفراء: هذا جائز فانه إذا جاء حرفان في معنى واحد بأو جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد، ويجوز إسناده إليهما أيضا، تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله، يذهب إلى الأخ، أو فليصلها يذهب إلى الأخت، وإن قلت فليصلهما جاز أيضا.
المسألة الثانية: أجمع المفسرون هاهنا على أن المراد من الأخ والأخت: الأخ والأخت من الأم، وكان سعد بن أبي قاص يقرأ: وله أخ أو أخت من أم، وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال في آخر السورة: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] فأثبت للأختين الثلثين، وللاخوة كل المال، وهاهنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث، فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات هاهنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية، فالمراد هاهنا الاخوة والأخوات من الأم فقط، وهناك الاخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب.
ثم قال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أو} [النساء: 11] وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده». فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد، إلا أنا نقول: هذه العمومات مخصوصة من وجهين:
الأول: في قدر الوصية، فانه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة، أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا، أما المجمل فقوله تعالى: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} [النساء: 7] ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص، وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} [النساء: 11] ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «الثلث والثلث كثير إنك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس».
واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام:
أحدها: أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث.
وثانيها: أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله: «والثلث كثير».
وثالثها: أنه اذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام: «أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس».
ورابعها: فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال اذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة، فعند عدمهم وجب الجواز.
الوجه الثاني: تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له، وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث، قال عليه الصلاة والسلام: «ألا لا وصية لوارث».
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمة الله عليه: اذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب، حجة الشافعي: أن الزكاة الواجبة والحج الواجب دين فيجب اخراجه بهذه الآية، وإنما قلنا إنه دين، لأن اللغة تدل عليه، والشرع أيضاً يدل عليه، أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد، قيل في الدعوات المشهورة؛ يا من دانت له الرقاب، أي انقادت، وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحج الذي كان على أبيها، فقال عليه الصلاة والسلام:
أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ؟ فقالت نعم، فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يُقضى إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال أبو بكر الرازي: المذكور في الآية الدين المطلق، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج دينا لله، والاسم المطلق لا يتناول المقيد.
قلنا: هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين، وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة، وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب، والله أعلم.
المسألة الثالثة: اعلم أن قوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارّ} نصب على الحال، أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته.
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه:
أحدها: أن يوصي بأكثر من الثلث.
وثانيها: أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي.
وثالثها: أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة.
ورابعها: أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل اليه.
وخامسها: أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة.
وسادسها: أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة، فهذا هو وجه الاضرار في الوصية.
واعلم أن العلماء قالوا: الأولى أن يوصي بأقل من الثلث، قال علي: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع. ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث.
وقال النخعي: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، وقبض أبو بكر فوصى، فان أوصى الإنسان فحسن، وإن لم يوص فحسن أيضا.
واعلم أن الأولى بالانسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم.
المسألة الرابعة: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الاضرار في الوصية من الكبائر.
واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] قال ابن عباس في الوصية: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} [النساء: 14] قال في الوصية، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الاضرار في الوصية من الكبائر وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة».
وقال عليه الصلاة والسلام: «من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة».
ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث، وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه، وذلك من أكبر الكبائر.
ثم قال تعالى: {وَصِيَّةً مّنَ الله} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: كيف انتصاب قوله: {وَصِيَّةً}.
والجواب فيه من وجوه:
الأول: أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية، كقوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} [النساء: 11].
الثاني: أن تكون منصوبة بقوله: {غَيْرَ مُضَار} أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث.
الثالث: أن يكون التقدير: وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الاسراف في الوصية، وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: غير مضار وصية بالاضافة.
السؤال الثاني: لم جعل خاتمة الآية الأولى: {فَرِيضَةً مّنَ الله} وخاتمة هذه الآية {وَصِيَّةً مّنَ الله}.
الجواب: ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل، وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى، ثم قال: {والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته {حَلِيمٌ} على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8